الأربعاء، مايو 20، 2015

خديوي المحروسة ... د/ عماد رمضان سليمان

خديوي المحروسة
18 يناير 1863م – 26 يونيو 1879م
ذكرى مرور مائة وعشرون عاماً على وفاة الخديوي "اسماعيل"
من خلال الاسطر التالية نستعرض بعض ملامح من اعمال الخديوي اسماعيل، الذي ولد في 31 ديسمبر 1830م وهو حفيد الباشا "محمد علي" مؤسس مصر الحديثة الذي نقل مصر بادارته واسلوب حكمه إلى النور وشمس العلم والبناء الحضاري، بعد ما كانت تنغمس في ظلام دامس اشبه بالعصور المظلمة التي كانت اشد جفافاً على مصر وشعبها من جفاف الصومال الآن، جفاف اتسم بالجهل والتخلف والفقر والمرض وانتشار البدع والخرافات وسوء احوال البلاد قبل العباد، ويأتي حفيده الحالم "اسماعيل" ابن ابراهيم الفاتح العظيم ليكمل مسيرة جده محمد علي باشا في النقلة الحضارية، لمعشوقته مصر الذي ارادها مدنية – حضارية، فكان له ما اراد وبلغ تحقيق حلمه، فنتيجة التطور الذي شهدته مصر في عصره والتقدم الذي بلغ مداه فلا نستعجب من ارسال دولة اليابان بعثة تعليمية عام 1864م إلى مصر لكي ينهل ويتعلم الطلاب اليابانيون من اسلوب الادارة المصرية، فقد كان اسماعيل يسير على خطى جده العظيم في التعليم والثقافة والعمران بل في كل مناحي الحياة سواء منها العلمية أم الاقتصادية والعسكرية والادارية والنيابية.
ومن اعمال اسماعيل التي يسجلها له التاريخ اعتنائه بالصحة العامة والنظافة من خلال دعم وتشجيع نوابغ الأطباء في مصر الذين عملوا على تحسين أحوال البلاد الصحية ومقاومة الأمراض ومكافحة الأوبئة وتتجلى هذه العناية في إنشاء المستشفيات وحمامات حلوان المعدنية التي اصبحت منتجع للسياحة العلاجية وتوافد السياح من اوروبا خاصة من الدول الاسكندنافية، وتنظيم مهنة الصيدلة، ولحماية صحة الإنسان وعدم نشر الأوبئة فاتخذ قرار بعدم ذبح الحيوانات إلا داخل السلخانات.
كما عمل على تجميل البيئة المصرية والاهتمام بحماية البيئة من التلوث، واراد ان تضاهي كل من القاهرة والاسكندرية أعظم مدن أوروبا، وقد كان تحديث القاهرة بالنسبة لإسماعيل رمزاً لارتقاء مصر حضارياً وتجسيداً لرغبته العارمة في أن يشهد الغرب عاصمة أوروبية تحكم دولة عصرية تقوم على ضفاف النيل ، تمتد من الإسكندرية إلى الخرطوم، لذا فأدخل على القاهرة كثير من التحسينات والتعديلات، منها ردم البرك، وأحل محلها القصور والبساتين ومهد الطرق ورصفها كما أنشأ الميادين وأقام بوسطها التماثيل، فغدت القاهرة وكأنها باريس الشرق.
وكانت المساحات الخضراء تمثل جانباً شديد الأهمية في النسيج الحضري لمدينة القاهرة وتطورها خلال القرن التاسع عشر الميلادي فاهتم إسماعيل بإنشاء البساتين والحدائق ومنها بساتين الأورمان التي كانت مساحتها 465 فداناً، ونسقت بها الأشجار النادرة المستوردة من أوروبا وأفريقيـا والصين والهنـد بعد أن تـم تغطية الأراضـي بطمي النيـل بارتفـاع مترين وذلك عامي 1863-1865م، ـوحديقة الأزبكية التي غـُرس بها مجموعات من أندر أنواع الأشجار من أوروبا وأفريقيا والهند والبرازيل وكوبا واستراليا، وكانت وقتذاك تـحفة معمارية وزراعية وتحويلها إلى "صرة" لعاصمته الجديدة التي يحلم بها، ومـن الحدائق التي أنشئت في عهده أيضا حديقة الأسماك .
كما كانت الحدائق بحي الإسماعيلية (ميدان التحرير ووسط المدينة) تحتل في عام 1874م أكثر من نصف مساحة الحي وكان يـمكن اعتبار هذا الحي بمثابة حديقة كبيرة ، حيث كان كل مبنى محاطاً بالأشجار والأزهار، ويرجع إلى إسماعيل فضل إنشاء حديقة الحيوان في الجزيرة وقد نقلت بعد ذلك إلى الجيزة عام 1890م ، وتضم هذه الحديقة مجموعات كبيرة ونادرة من الحيوانات والنباتات القيمة وتعتبر من أجمل مثيلاتها في العالم . وتُعد هذه الحدائق بمثابة الرئة التي يتنفس منها سكان العاصمة.
وهذا ماشهده قنصل الولايات المتحدة عندما بعث برسالة إلى وزارة الخارجية الأمريكية في15سبتمبر عام 1873م وهذا نصها : "بلغ التجميل والتغيير في القاهرة ، منذ بضع سنوات، مدى يصعب على الأجنبي تقدير طبيعته ومداه حق التقدير"، وشهدت شبرا نمواً عمرانياً متزايداً التي زارها السلطان العثماني عبد العزيز في قصر النزهة بطريق شبرا (مدرسة التوفيقية الثانوية حالياً)، كما قال السير صمويل بيكر سنة 1873م في كتابه (الإسماعيلية) "إن مصر وحدها هي التي تستطيع تمدين أفريقية النيلية إلى خط الاستواء، وبذلك تضمن حياة السائحين في تلك الأقطار، ويؤكد ذلك المسيو "سواتزارا" قنصل النمسا فقال على عهد إسماعيل بأن الأقطار السودانية التي كانت مقفلة قد فتحت للتجارة والرحلات ، مما مهد السبيل لدخول الحضارة إليها.
وقد قام إسماعيل بالعديد من الإصلاحات الاجتماعية ومن أهمها مجهوداته في سبيل إلغاء تجارة الرقيق من خلال الحملات الحربية التي وجهها إلى الأقاليم الاستوائية، وعلى ذلك يتضح اهتمام إسماعيل بحقوق الإنسان، ولهذا كان محل تقدير الكُتاب والساسة في أوروبا .
وعليه يتضح اهتمام الخديوي إسماعيل بالنهوض بمصرنا العزيزة في جميع المجالات، فيُعد عصر إسماعيل أكثر عصورنا التاريخية الحديثة ثراءً وحركة شاملة والأخذ بأسباب الارتقاء الحضاري في العمران والزراعة والصناعة والتجارة والتعليم والقضاء والنظم السياسية والإدارية وتجميل البيئة والرعاية الصحية وغيرها....
ويحدثنا "عبد الرحمن الرافعي" عن عرش إسماعيل: "…كان حقا عظيما في موقفه، شجاعا في محنته، فشجاعته جعلته يغامر بعرشه في سبيل مقاومة الدول الأوروبية وخاصة انجلترا..... فآثر المقاومة على الاستمساك بالعرش بل ونبذه، وقليل من الملوك والأمراء من يضحُّون بالعرش في سبيل المدافعة عن حقوق البلاد ورفعتها، فالصفحة التي انتهى بها حكم الخديوي إسماعيل هي بلا زيف أو نفاق من الصحائف المجيدة في تاريخ الحركة القومية، لأنها صفحة مجاهدة وإباء وتضحية كبرى، ولهذه التضحية حقها من الإعجاب والتمجيد…".
أحب مصر وشعبها، فخلده التاريخ من عظماء من حكموا مصر المحروسة (1863م – 1879)، وبعد عزله ضاقت الدنيا به، ولم يعرف أين يذهب بعدما رفض السلطان العثماني أن يعيش في أراضي الدولة العثمانية، وانتهى به الأمر إلى أن يعيش في نابولي بإيطاليا، ولم تفارقه آماله بالعودة إلى مصر وعرشها، ولكن آماله ومساعيه أخفقت ثم انتهى به الأمر إلى أن استقر في الأستانة بتركيا في قصر يملكه على البوسفور حتى وفاته في 2 مارس 1895م وبعد ما قضى حوالي 16 عامًا في منفاه لم يعد لمصر إلا ميتًا، وبناء على وصيته ان يدفن في ارض معشوقته، وتنفيذاً لتلك الوصية دفن بها، وهو يرقد في مدفنه بمسجد الرفاعي بالقاهرة. ..... رحم الله الخديوي اسماعيل الذي عشق واحب مصر قأحبته مصر واحبه شعبها العظيم.
وكم كان الخديوي اسماعيل عاشقا لمصر ومخلصا لها ولشعبها، وكم كان يجتهد من أجل تقدم البلاد وحمايتها، والحديث الآتي الذي دار بينه وبين ابنته الأميرة فاطمة في أواخر ايامه يبرهن على وطنيته ومصريته وامانته لهذا الوطن العظيم.
الخديوي اسماعيل: يسأل ابنته الأميرة فاطمة هل تكرهيني يا ابنتي؟
الأميرة فاطمة: اني أحبك مثل عمري
قد عشت ألمح في عيونك كل أحلام الفوارس حينما يتمايلون علي جياد الانتصار
لكن سدا يفصل الأشياء دوما بيننا
وأري النهاية في عيوني ظلمة سوداء تأكل حلمنا
 الخديوي: اني أخاف من الزمن وأخاف يوما أن يقال بأنني بعت البلد
 فاطمة: أبتاه لا تجزع
فبعض الناس يصنعه الزمن
والبعض يبقى دائما فوق الزمن
أبتاه أنت أتيت كي تصنع زمانا لم تكن أبدا صنيعا للزمن
الخديوي: سيقول بعض الناس أنني كنت نصابا كبيرا!
 فاطمة: ويقول بعض الناس أنك كنت انسانا عظيما!
 الخديوي: اني أخاف من الزمن وأخاف يوما أن يقال أنني بعت البلد يا أيها الوطن الذي أحببته دوما وأعطاني الكثير مابعت فيك الغد
اني حلمت بأن ارى مصر الحبيبة دائما فوق الجميع
أخطأت في حلمي ولكن لا تقولوا باعها
ليس الخديوي من يبيع
ليس الخديوي يا أبنتي.........
ان قال بعض الناس يوما أنني أخطأت أو أجرمت قولي
لم يكن أبتي نبيا
قد كان يخطأ مثل كل الحالمين من البشر.
د/ عماد القيصرلي
الأربعاء 2 مارس 2015م

 المراجع
1. أحمد محمد عوف: موسوعة حضارة العالم، ج6 الموسوعة الحرة، ويكبيديا، 31-9-2008م.
2. جمال بدوي: محمد علي وأولاده، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1999م.
3. جى فاجيت: ترجمة محمد رفعت عواد: محمد علي "مؤسس مصر الحديثة"، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، سنة 2005م.
4. دار الخليج للطباعة والنشر، 24 – 10 - 2008م،  نقلاً عن، سينثيا مينيتي، ترجمة أحمد محمود: "قاهرة إسماعيل.. باريس على ضفاف النيل" المركز القومي للترجمة، جمهورية مصر العربية.
5.  شحاته عيسى إبراهيم: القاهرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 2001م.
6. عبد الرحمن الرافعي: عصر لإسماعيل، ج2، ط4، دار المعارف، 1987م
7. عبد المنعم إبراهيم الجميعي: المجلة التاريخية المصرية، الخديو إسماعيل وبناء القاهرة الحديثة (مشروع باريس الشرق)، الجمعية المصرية للدراسات التاريخية، الجلد رقم (41)، 2001 – 2002م.
8. عرفه عبده علي: القاهرة في عصر إسماعيل، الدار المصرية اللبنانية، 1998م.
9. علماء الحملة الفرنسية، ترجمة زهير الشايب: موسوعة وصف مصر، مكتبة نهضة مصر للطباعة والنشر، ج4، 2002م.
10. علي مبارك: الخطط التوفيقية الجديدة لمصر القاهرة، ج1، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1994م.
11. محفوظ عبد الرحمن: أفندينا في المنفى – مجلة الهلال، مايو 2001م.
12. محمد صبري: تاريخ مصر من محمد علي إلى العصر الحديث، مكتبة مدبولي القاهرة، ط2، سنة 1996م.
13. Nigel Dower: Human Development - Friend or Foe to Environmental Ethics?, The White Horse Press, Environmental Values, V 9, 2000, pp 39-54.
14. Paul P. & eatl:" Ethics and Values in Environmental Policy" The White Horse Press, Environmental Values, V2, 1993, pp137-157.